مقالات
الحقيقة الغائبة في أزمة تحاليل المنتجات الغذائية

بقلم د. إيناس عد العزيز خبيرة الأمن الرقمى
في الأيام الأخيرة تصدّر مشهد جديد السوشيال ميديا في مصر: حلقات شبابية تقدّم نفسها بصفتها “صوت المستهلك” وتعرض نتائج تحاليل صادمة لمنتجات موجودة في كل بيت — عسل، لانشون، زيت زيتون، خبز بني، مياه معبأة، ألبان وعصائر.
النتائج التي عُرضت أثارت قلقاً واسعاً ودفعت الشارع لطرح سؤال واحد: هل نحن أمام خلل صحي خطير… أم أمام موجة من المبالغة والضجيج ؟
التحقيق التالي يعرض الصورة كاملة.. بعيداً عن المزايدات.
⸻
أولاً: وقائع ما حدث… رواية صُنّاع الحلقات
وفقاً لما هو منشور عبر منصاتهم، قام صانعو المحتوى بما يلي:
•شراء عينات من المنتجات بشكل عشوائي من الأسواق.
•تسليم بعضها — بحسب ادعائهم — للمعامل المركزية بوزارة الصحة لتحليل الجودة والملوثات والميكروبات.
•إعلان نتائج وصفوها بأنها “كارثية”، شملت وجود غش في منتجات العسل وزيت الزيتون، وتلوث ميكروبي في المياه المعبأة، وتلاعب في مكوّنات اللانشون والجبن.
النتائج قُدّمت ، بلغة صادمة، ما خلق حالة من الذعر لدى الجمهور… وفتح الباب لأسئلة أكبر من قدرة المحتوى الفردي على الإجابة عليها.
⸻
ثانياً: ما الذي تقوله العلوم قبل الأحكام؟
التحليل المخبري ليس مجرد “اختبار”.
هناك بروتوكولات إذا لم تُراعَ قد تتحول النتائج من حقيقة علمية إلى نتيجة مضللة.
1) منهجية أخذ العينة
الأصل أن العينة يجب أن تُؤخذ:
•بأدوات معقمة،
•في عبوات مختبرية خاصة،
•بواسطة مختص،
•وفق سلسلة توثيق “Chain of Custody” تضمن عدم تلوث أو تغيير.
أي خطأ بسيط — فتح العبوة في بيئة غير معقمة، لمسها باليد، تأخير وصولها للمختبر — يغيّر النتيجة بالكامل.
2) معامل التحليل المعتمدة
تحليل المياه مثلاً لا ينعقد إلا في:
•معامل وزارة الصحة،
•أو المعامل المركزية لشركات المياه.
معامل الزراعة ليست جهة اختصاص لتحليل نوعية مياه الشرب.
والأدوية والأغذية لها معامل متخصصة مختلفة.
بمعنى: الجهة الخاطئة = نتيجة بلا سند علمي.
3) تمثيل العينة
لا يمكن الحكم على علامة تجارية أو قطاع إنتاج كامل من خلال عينة واحدة.
التحقيقات العلمية تستخدم:
•عينات متعددة،
•من أماكن مختلفة،
•وفي أوقات مختلفة.
عينة واحدة قد تمثل خطأ في التخزين فقط، لا المنتج كله.
ثالثاً: لماذا انفجر الجدل؟ ومن المسؤول عن التحقق؟
الشارع انقسم بين فريقين:
الفريق الأول: “التحليل لا يكذب.. والفساد واضح”
هذا الفريق يرى أن نتائج التحاليل، مهما كان مصدرها، تفتح باب الشك… وأن من حق الجمهور أن يعرف الحقيقة، بل يطالبون بمحاسبة المسؤولين فوراً إن ثبت وجود غش أو تلوث.
الفريق الثاني: “ما حدث تريند… ومنهجية علمية غائبة”
يرى هذا الفريق أن المحتوى اعتمد على “العينة العشوائية” دون بروتوكول، وأن نتائج المعامل يمكن أن تتغير تماماً بسبب أخطاء في النقل أو التلوث.
ويشيرون إلى أن لغة “الكارثة” تخدم المشاهدات أكثر مما تخدم الصحة العامة.
بين الطرفين… يقف المواطن محتاراً:
من نصدّق؟ ومن يملك كلمة الفصل؟
رابعاً: الجهات المسؤولة قانوناً عن إعلان الحقيقة
وفق القوانين المصرية، الحقيقة لا تعلن على المنصات… بل عبر الجهات الآتية:
1) وزارة الصحة — الإدارة المركزية للمعامل
هي الجهة العليا المسؤولة عن:
•تحليل المياه والمواد الغذائية،
•إصدار تقارير رسمية معتمدة،
•تحديد مستويات الخطورة،
•وإعلان نتائج السحب الدوري للعينات.
2) الهيئة القومية لسلامة الغذاء
مسؤوليتها متابعة المصانع، والتأكد من مطابقة خطوط الإنتاج للمواصفات القياسية.
3) جهاز حماية المستهلك
له دور في التحقيق في الشكاوى ونشر البيانات الرسمية وتطبيق الغرامات.
4) النيابة العامة
تتحرك إذا ظهر شبهة غش تجاري أو تعريض حياة المواطنين للخطر.
بمعنى آخر:
الحقيقة مكانها التحليل الرسمي وليس الفيديو.
خامساً: هل أخطأ صانعو الحلقات؟ أم كشفوا مشكلة أكبر؟
التحقيق الصحفي يلتزم بالحياد… لكن الحقائق العلمية تشير إلى الآتي:
■ ما قد يكون صحيحاً:
•فتح الباب لمناقشة الجودة وسلامة المنتجات خطوة مهمة.
•من حق المواطن أن يعرف ما يأكله ويشربه.
•بعض القطاعات الغذائية تحتاج بالفعل رقابة أشد.
■ وما قد يكون مُضلِّلاً:
•طريقة أخذ العينات غير موثقة علمياً.
•لا يوجد نشر رسمي لتقارير المعامل.
•لا نعرف ما إذا كانت العينات وصلت بالشكل الصحيح.
•تعميم النتائج على السوق بأكمله غير علمي.
•لغة “الكارثة” قد تصنع ذعراً بلا دليل نهائي.
التحقيق العلمي لا يعترف بالنيات… بل بالمنهج والدليل.
سادساً: أين الحقيقة إذن؟
الحقيقة الآن معلّقة بين احتمالين لا ثالث لهما:
الاحتمال الأول: وجود منتجات فاسدة فعلاً
وفي هذه الحالة:
•يجب إعلان النتائج رسمياً،
•سحب المنتجات من الأسواق،
•محاسبة المخالفين مهما كانت الجهة.
الاحتمال الثاني: وجود خطأ في أخذ العينات أو قراءة النتائج
وفي هذه الحالة:
•يجب كشف تفاصيل الخطأ،
•وإعلان الإجراءات التصحيحية،
•ومحاسبة من أثار الذعر بلا دليل معتمد.
وفي الحالتين… الحقيقة ليست رفاهية، بل حقّ دستوري متعلّق بسلامة المجتمع.
سابعاًّ: ما المطلوب الآن؟ (توصيات حيادية)
1) تشكيل لجنة تحقيق علمية مستقلة
تضم خبراء ميكروبيولوجيا وكيمياء أغذية وطبّ صحة بيئية.
2) إعادة سحب عينات ممثّلة
من مصانع وتجار ومنافذ مختلفة، بحضور جهات محايدة.
3) نشر تقارير التحاليل كاملة
وليس مختصرات أو تصريحات إعلامية.
4) تحديد المسؤولية بدقة
إن ثبت الغش أو التلاعب… فالعقوبة وفق القانون واضحة.
وإن ثبت الخطأ في المنهج… فالمحاسبة أيضاً واجبة.
5) حماية المستهلك دون صناعة ذعر
الشفافية لا تتعارض مع الاستقرار… لكنها تمنع الشائعات وتغلق باب التلاعب.
ثامناً: كلمة أخيرة — الحقيقة لا تموت… لكنها تحتاج من يكشفها
هذا التحقيق لا يدين أحداً ولا يبرئ أحداً.. لكنه يضع الأساس العلمي الذي يجب أن تُبنى عليه الأحكام.
صحة المصريين ليست مجالاً للمزايدة ولا للمحتوى السريع… لكنها كذلك ليست ملفاً يجب الصمت عنه.
بين الضجيج والحقائق توجد مساحة واحدة: التحقيق العلمي الشفاف.
وما لم تصدر الجهات المختصة بياناً مفصلاً يجيب عن كل الأسئلة… ستظل الحقيقة معلّقة، وسيظل المواطن يعيش بين الخوف والشك.




