
لماذا يتحرش رجل كهل بالأطفال؟.. وكيف تحولت بعض المؤسسات التعليمية إلى مناطق خطر ؟
متابعة: مروان محمد
لم تعد جرائم التحرش بالأطفال داخل المؤسسات التعليمية حوادث استثنائية يمكن التعامل معها بوصفها «وقائع فردية»، التكرار، وتعدد المحافظات، وتشابه السيناريوهات، واختلاف المسميات.. كلها مؤشرات خطيرة تؤكد أننا أمام ظاهرة تتشكل في صمت، لا جريمة عابرة.
المدهش والمخيف في آن واحد أن الجاني في أغلب هذه الوقائع ليس غريبًا متخفيًا في شارع مظلم، بل رجل بالغ، أو كهل، يعمل داخل مدرسة أو أكاديمية أو مؤسسة يُفترض أنها ملاذ آمن.
وهنا يفرض السؤال نفسه بقوة ، ما الذي يدفع رجلًا ناضجًا، في موقع مسؤولية، إلى الاعتداء على طفل؟.. الإجابة ليست بسيطة… لكنها ضرورية إن أردنا وقف النزيف.
الجريمة لا تبدأ باليد.. بل بالفكرة
التحرش بالأطفال لا يولد فجأة، ولا يحدث في لحظة اندفاع. هو جريمة باردة، محسوبة، تمر بمراحل نفسية وسلوكية قبل أن تتحول إلى فعل.
علم النفس الجنائي يؤكد أن كثيرًا من المتحرشين لا تحركهم الرغبة الجنسية كما يتصور البعض، بل هوس السيطرة.
السيطرة على كائن ضعيف، صامت، لا يفهم، ولا يملك أدوات المواجهة.
الرجل الكهل الذي يشعر بفقدان القيمة، أو التهميش، أو الفشل الاجتماعي، يبحث عن مساحة يستعيد فيها شعور القوة.. الطفل، للأسف، يصبح أسهل ساحة.
لماذا الأطفال؟ .. ولماذا داخل المدارس؟
الطفل لا يشك، لا يفسر الإشارات، يخاف من العقاب، ويظن أن الخطأ يقع عليه.
أما المؤسسة التعليمية، فتوفر للجاني ما لا يجده في أي مكان آخر، سلطة شكلية، ثقة عمياء من الأسر، وقرب دائم من الضحية، حين تغيب الرقابة الحقيقية، ويُسمح بالخلوة غير المبررة، ويُختزل الأمان في اسم المدرسة أو قيمة المصروفات، تتحول المؤسسة من درع حماية إلى غطاء مثالي للجريمة.
التحرش فعل اختبار قبل أن يكون اعتداء
لا يبدأ الجاني باعتداء صريح، يبدأ بالاختبار نظرة- كلمة- مزاح غير مناسب- طلب بسيط خارج السياق- ثم خلوة.. يراقب رد الفعل – يراقب الصمت- يراقب الإدارة.. وحين لا يُقابل هذا المسار بقطع حاسم، ينتقل الجاني للمرحلة التالية.. الجريمة هنا لا تتصاعد فجأة.. بل تتغذى على الصمت.
الرجل الكهل.. حين يتحول العمر إلى قناع
العمر في هذه الجرائم لا يمثل حكمة، بل أحيانًا قناعًا.. الجاني يعلم أن المجتمع يميل لتصديق الكبير، ويشكك في الطفل.
يعرف أن الضحية قد تُجبر على الصمت خوفًا من الفضيحة أو العقاب.
بعض هؤلاء يحمل تاريخًا نفسيًا مضطربًا، أو خبرات سابقة غير معالجة، أو ميولًا منحرفة لم تخضع لأي تقييم أو رقابة.. الخطورة الحقيقية أن هذه السمات لا تُكتشف بالملف الوظيفي، بل بالفحص النفسي والسلوكي… وهو ما يغيب في كثير من المؤسسات.
رأي أمني: نحن أمام خلل منظومي

يرى اللواء أشرف عبدالعزيز، الخبير الأمني والاستراتيجي، أن ما يحدث لا يمكن فصله عن مفهوم الأمن المجتمعي.
وأكد اللواء أشرف عبدالعزيز، أن الجريمة لا تقع فقط بسبب الجاني، بل بسبب منظومة تسمح له بالاستمرار، وتغض الطرف عن الإشارات المبكرة، وتخشى السمعة أكثر من حماية الطفل.
وحذر من أن أخطر ما في هذه الجرائم هو الزمن الضائع قبل الاكتشاف، حيث تتضاعف الأضرار النفسية، ويتحول الطفل من ضحية إلى شخص محطم داخليًا.
ثقافة الصمت الشريك الخفي في الجريمة
أخطر ما يواجه قضايا التحرش بالأطفال ليس ضعف القانون، بل خوف المجتمع.
الخوف من الفضيحة، والخوف على اسم المؤسسة، والخوف من كلام الناس.. هذا الخوف يصنع مساحة آمنة للجاني، ويترك الطفل وحيدًا في المواجهة.. والحقيقة المؤلمة أن الصمت لا يحمي أحدًا.. بل يؤجل الجريمة القادمة.
تحليل سلوكي: كيف نصنع الوقاية ؟

فب ذات السياق أكدت د. إيناس عبدالعزيز خبيرة الأمن الرقمي، أن المواجهة الحقيقية لا تبدأ بعد وقوع الجريمة، بل قبلها بكثير.
وترى أن الوقاية تقوم على ثلاثة محاور أساسية:
- وعي الطفل بحدوده الجسدية، وتمكينه من قول «لا».
- أسرة تلاحظ التغيرات السلوكية ولا تستهين بها.
- ومؤسسة تملك نظامًا صارمًا للفحص والرقابة والمساءلة.
وحذرت من أن أي مكان يتعامل مع أطفال دون ضوابط واضحة يتحول تلقائيًا إلى بيئة خطر، مهما كانت نواياه.
متى نكسر الدائرة؟
نكسرها عندما نفهم أن التحرش ليس حادثًا مفاجئًا، بل نتيجة نتيجة إهمال، وصمت، وثقة غير مشروطة.
نكسرها حين ندرك أن حماية الطفل ليست ملفًا اجتماعيًا، بل قضية أمن قومي، وأن كل تأخير في المواجهة يخلق ضحية جديدة.
الخاتمة: الصمت لم يعد خيارًا
ما يحدث اليوم ليس ذعرًا إعلاميًا، بل إنذارًا مبكرًا، وإذا تعاملنا معه بالاستخفاف أو الإنكار، سنستيقظ على جرائم أشد قسوة.
الطفل الذي لا نحميه اليوم، سيحاسب المجتمع غدًا، والسؤال الذي يجب أن يبقى معلقًا في وجه الجميع.. إذا صمتنا الآن… فكم طفل سيدفع الثمن .




