
متابعة/مروان محمد
لم يعد “الإنترنت المظلم” مجرد مساحة رقمية مخفية يتبادل فيها المجرمون المخدرات أو البيانات المسروقة. نحن أمام عالم أعمق وأكثر وحشية؛ عالم تُعرض فيه الجرائم كأنها عروض ترفيهية مدفوعة.
في “غرف الريد روم” الشهيرة، يدفع مستخدمون من شتى دول العالم مبالغ طائلة لمشاهدة طفل يتعرض لتعذيب.. امرأة تُغتصب.. أو جريمة قتل تُنفّذ خصيصًا للمشاهدين.. إنه سوق سوداء للدم، وحلبة للتعذيب الحيّ، يصعب على أكثر الأفلام رعبًا أن تصوّر بشاعتها.
ولعل أخطر ما في الأمر أن بعض هذه الغرف تُدار من جماعات إجرامية محترفة لها امتدادات دولية، تعتمد على خطف الأطفال واستغلالهم وابتزاز أسرهم، أو قتلهم فقط لإشباع الطلب المتزايد على “المحتوى العنيف المدفوع”.
أولًا: قضية مدرسة سيدز… ظهور “المتهم ذو القناع الأسود”
القضية التي هزّت الرأي العام المصري خلال الأسابيع الماضية، والمعروفة إعلاميًّا بقضية هتك عرض أطفال مدرسة سيدز الدولية، عادت لتتصدر المشهد بعد تطور خطير:
- النيابة العامة أعلنت ضم ثلاثة متهمين جدد إلى القضية، ليصبح العدد سبعة متهمين، جميعهم من العاملين داخل المدرسة.
- تقرير الطب الشرعي كشف العثور على خلايا بشرية تخص ثلاثة منهم على ملابس الأطفال.
- وتمت إحالة القضية بالكامل – بشكل عاجل – إلى النيابة العسكرية بعد أسبوع من بدء التحقيق.
لكن أخطر ما ورد في التحقيقات.. إشارة عدد من الأطفال إلى “متهم مُقنَّع” يرتدي قناعًا أسود، لم يتم التعرف عليه حتى الآن.
وجود شخص مجهول الهوية داخل مدرسة دولية، يتعامل مع أطفال صغار دون أن يتمكن أحد من كشفه، أثار الشكوك حول احتمال تورط طرف خارجي أو جهة إجرامية محترفة في إدارة المشهد.
رأي د. إيناس عبد العزيز – خبيرة الأمن الرقمي: كيف يعمل الدارك ويب ؟

قالت د. إيناس: “الدارك ويب ليس مكانًا للدردشة أو الهروب من رقابة الإنترنت… بل هو سوق حقيقي للجريمة. غرف «الريد روم» هي أخطر ما فيه؛ بث مباشر لجرائم تعذيب وقتل تُنفّذ حسب طلب المشاهد، وكل شيء مدفوع بالعملة الرقمية. هناك من يدفع آلاف الدولارات ليشاهد طفلًا يُعذّب أو امرأة تُغتصب… والفاعل يرتكب الجريمة فقط لأن أحدهم دفع الثمن.”
وأضافت: “وجود متهم مقنّع في مدرسة سيدز يذكرنا بنمط شهير في الدارك ويب، حيث يخفي الجناة وجوههم تمامًا، ويستخدمون طرق دخول وخروج لا يمكن تعقبها. إذا ثبت أن هذا الشخص ليس من العاملين بالمدرسة، فنحن أمام احتمال تدخل جهة إجرامية خارجية.”
⸻
ثانيًا: هل نحن أمام جريمة معزولة.. أم جزء من منظومة إجرامية أكبر ؟
الانتقال السريع للتحقيقات إلى النيابة العسكرية لم يكن خطوة عادية.. هذا النوع من الإحالات يحدث عندما تتسع دائرة الاشتباه لتشمل جهات أو أفرادًا قد يكون لهم امتداد خارج حدود الدولة،أو عندما تكون الجريمة منظمة وليست أفعالًا فردية، أو يحتمل وجود خيوط متصلة بشبكات دولية.
التساؤل المنطقي الآن: هل “المتهم المقنّع” مرتبط بشبكة تستهدف إنتاج محتوى جنسي عن الأطفال لبيعه عبر الدارك ويب ؟.. وهو سيناريو، رغم خطورته، بات شائعًا في دول عديدة، حيث تُباع المقاطع بعشرات الآلاف من الدولارات عبر خوادم مظلمة يصعب تتبعها.
ثالثًا: من مدرسة سيدز إلى جريمة شبرا الخيمة.. نمط واحد وهدف واحد
قضية قتل طفل شبرا الخيمة ليست بعيدة عن المشهد.
في أبريل 2024، اتُهم شخصان – أحدهما في مصر والآخر مقيم بالكويت – بالتخطيط لقتل طفل مقابل 5 ملايين جنيه، مع تصوير الجريمة والتمثيل بجثة الضحية.
التحقيقات كشفت:
- اتفاق مسبق بين المتهمين على قتل الطفل مقابل المال.
- منح المتهم الثاني تعليمات دقيقة حول المواد المخدرة المستخدمة.
- وجود شبهة تصوير الجريمة بغرض عرض المشاهد على منصات مدفوعة.
هذا النمط – القتل مقابل المال والتوثيق – يشبه كثيرًا ما يحدث في غرف “الريد روم”، حيث تدفع مجموعات من المستخدمين لطلب تنفيذ جريمة محددة على الهواء.
رأي اللواء أشرف عبد العزيز – الخبير الأمني والاستراتيجي: الجريمة المنظمة لا تعمل منفردة

قال اللواء أشرف: “الجريمة المنظمة في العصر الحديث لم تعد تعتمد على العصابات التقليدية. نحن أمام شبكات دولية تستخدم التكنولوجيا للتخفي، وتستغل الأطفال والنساء في جرائم تصويرية تباع لزبائن حول العالم، والدليل علي ذلك أن مؤسس أشهر غرفة ريد روم في أوروبا اعترف أنه كان يختطف أطفالًا من ملاجئ ومناطق فقيرة، ويجبرهم على الظهور في بث مباشر للتعذيب مقابل المال.”
وأضاف: “ربط قضية مدرسة سيدز بقضية شبرا ليس مبالغة. وجود متهم مقنّع، وتوقيتات متقاربة، وتحقيقات تنتقل إلى النيابة العسكرية… كلها مؤشرات على احتمال وجود خيط مشترك.”
وأكد اللواء اشرف عبد العزيز، بأنه لا توجد أي أدلة رسمية حتى الآن تثبت ارتباط قضية سيدز أو قضية شبرا بغرف الريد روم أو الدارك ويب، لكن السلوك الإجرامي الذي ظهر في القضيتين يتشابه مع أنماط تستخدم عالميًا في استغلال الأطفال، تصوير الاعتداءات، الاتجار الرقمي بالمحتوى الجنسي، أو التحريض عبر الإنترنت مقابل المال.
وجود متهم “مقنّع” في بيئة تعليمية، ووجود محرض خارجي يدفع ملايين في قضية أخرى، كلها عناصر لا يمكن تجاهلها من منظور تحليلي.
فالجرائم المرتبطة بالإنترنت المظلم لا تنشأ فجأة؛ بل تبدأ غالبًا عبر عناصر غير معروفة، اتصالات عابرة للدول، وفعل جنائي داخل بيئة مغلقة، وهو ما يجعل جهة التحقيق —محقة — بفحص كل احتمالية، سواء كانت داخلية أو خارجية .
رابعًا: هل نواجه نمطًا جديدًا من الجرائم في مصر؟
التحقيقات ما تزال جارية، لكن سيناريو “المحتوى المدفوع” لم يعد مستبعدًا:
- متهم مجهول ذو قناع.
- توسع دائرة الاتهام لتشمل سبعة أشخاص.
- إحالة عاجلة للنيابة العسكرية.
- وجود قضايا أخرى (مثل جريمة شبرا) فيها تصوير مقابل المال.
قد لا تكون هذه الجرائم أحداثًا منفصلة، وإنما حلقات في سلسلة تستفيد منها شبكات إجرامية عالمية تعتمد على:
1.استغلال الأطفال.
2.تصوير أفعال جنسية أو عنف.
3.بيع المقاطع على الدارك ويب.
4.استخدام وسطاء محليين لاصطياد الضحايا.
خاتمة… هل القناع الأسود جزء من شبكة أكبر؟
التحقيقات الرسمية لم تُعلن بعد هوية “المتهم المقنّع”، لكن وجوده وحده كفيل بتحويل القضية من “جريمة تحرش داخل مدرسة” إلى “ملف أمني واسع قد يتجاوز حدود الدولة”.
ومع تصاعد الأدلة، وتحول القضية بالكامل إلى عهدة النيابة العسكرية، يبدو أن الإجابة عن السؤال الخطير:
هل يقف الإنترنت المظلم وراء الجريمة؟.. لم تعد بعيدة كما اعتقد البعض.. ما هو مؤكد حتى الآن.. أن مصر تواجه نمطًا جديدًا من الجرائم الرقمية العابرة للحدود، وأن حماية الأطفال أصبحت معركة حقيقية مع عالم مظلم لا يعترف بقانون ولا إنسانية.



