جريدة الممر
شهد التاريخ الإسلامي العديد من الحكام المسلمين الذين كان لهم مكانة عظيمة مرموقة شهد بها القاصي والداني، والقريب والبعيد والمسلك والكافر، ولعل رسول الروم عندما جاء إلى الخليفة عمر بن الخطاب فوجده نائما تحت شجرة دون حراسة، وذلك بالمخالفة لكل حكام العالم قال قولته المشهورة” حكمت فعدلت فأمنت ياعمر”، كان هذا دليلا على أن العدل أساس الملك، وقد سجل كثير من حكام المسلمين العظماء تاريخهم بمداد من نور وقدموا أعمالا وفتوحات وصلت الي أوروبا غربا وإلى الصين شرقا، وقد سطر كتاب التاريخ والأثر بعض مآثر هؤلاء العظماء التي لو عمل بها أحفادهم لكانوا رواد الأمم مثلهم، لكن أضاع هؤلاء الأحفاد بكل أسف ميراث أجدادهم العظماء، الذين لم يبرعوا فقط في العلوم الدينية وامور الحكم بل برعوا في امور الدنيا وساسوا العالم ونشروا العلم وترجموا كتب غيرهم واخترعوا من العلوم ما عجز عنه الغرب الذي غاص وغاب في ظلمات الجهل قرونا طوال في الوقت الذي ازدهرت فيه الدولة الإسلامية سواء في بغداد أو الشام أو الأندلس في نور وضياء المعرفة، ولعل من مآثر علومهم ما ذكره المؤرخون أن الدولة الإسلامية في بغداد كانت لديها مكتبة اغرقها التتار وقيل انها سدت نهر الفرات، التاريخ يحوي الكثير والكثير من مآثر حكام المسلمين يعجز اللسان عن وصفهم، لكن اعترافا بفضلهم ومكانتهم نسرد بعضا من أعمالهم ونبذة من عدلهم ونرثي في الوقت ذاته لحالنا، على الرغم انه لا يفيد فالبكاء على الاطلال والحزن على اللبن المسكوب لا يمكنه أن يعيد المفقود..
الفاروق عمر بن الخطاب..
كان “عمر بن الخطاب” نموذجًا فريدًا للحاكم الذي يستشعر مسئوليته أمام الله وأمام الأمة، فقد كان مثالا نادرًا للزهد والورع، والتواضع والإحساس بثقل التبعة وخطورة مسئولية الحكم، حتى إنه كان يخرج ليلا يتفقد أحوال المسلمين، ويلتمس حاجات رعيته التي استودعه الله أمانتها .
واسلم عمر بن الخطاب في ذي الحجة من السنة السادسة للدعوة، وهو ابن ست وعشرين سنة ولقبه الفاروق. وكنيته أبو حفص، وقد لقب بالفاروق لأنه كان يفرق بين الحق والباطل ولا يخاف في الله لومة لائم.وقال: عمر عندما بويع بالخلافة:رحم الله أبا بكر، لقد أتعب من بعده. ولقد كان عمر قريبًا من أبى بكر، يعاونه ويؤازره، ويمده بالرأى والمشورة، فهو الصاحب وهو المشير.
العدالة والقضاء في عهد عمر
أسس عمر القضاء علي العدالة بين الناس حيث قال: فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدلي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، وأس بين الناس في وجهك وعدلك ومجلسك؛ حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك. البينة على من ادعى واليمين على من أنكر والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً، ولا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديم لا يبطله شئ ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل الفهم فيما تلجلج في صدرك ما ليس في كتاب الله تعالى ولا سنة نبيه ثم اعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور بنظائرها واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أو بينة أمداً ينتهي إليه، فمن أحضر بينة أخذت له لحقه واستحلل القضية عليه فإن ذلك أنفى للشك وأجلى للعمى. والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد أو مجرباً عليه بشهادة زور أو ظنيناً في ولاء أو نسب، فإن الله عفا عن الأيمان ودرأ بالبينات. وإياك والقلق والضجر والتأفف بالخصوم فإن الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن به الذكر والسلام.
ومن نماذج ذلك، ما روي أن عمر كان دائم الرقابة لله في نفسه وفي عماله وفي رعيته، بل إنه ليشعر بوطأة المسئولية عليه حتى تجاه البهائم العجماء فيقول: “والله لو أن بغلة عثرت بشط الفرات لكنت مسئولا عنها أمام الله، لماذا لم أعبد لها الطريق”.
وكان “عمر” إذا بعث عاملاً كتب ماله، حتى يحاسبه إذا ما استعفاه أو عزله عن ثروته وأمواله، وكان يدقق الاختيار لمن يتولون أمور الرعية، أو يتعرضون لحوائج المسلمين، ويعد نفسه شريكًا لهم في أفعالهم.
واستشعر عمر خطورة الحكم والمسئولية، فكان إذا أتاه الخصمان برك على ركبته وقال: اللهم أعني عليهم، فإن كل واحد منهما يريدني على ديني.
وقد بلغ من شدة عدل عمر وورعه أنه لما أقام “عمرو بن العاص” الحد على “عبد الرحمن بن عمر” في شرب الخمر، نهره وهدده بالعزل؛ لأنه لم يقم عليه الحد علانية أمام الناس، وأمره أن يرسل إليه ولده “عبد الرحمن” فلما دخل عليه وكان ضعيفًا منهكًا من الجلد، أمر “عمر” بإقامة الحد عليه مرة أخرى علانية، وتدخل بعض الصحابة ليقنعوه بأنه قد أقيم عليه الحد مرة فلا يقام عليه ثانية، ولكنه عنفهم، وضربه ثانية و”عبد الرحمن” يصيح: أنا مريض وأنت قاتلي، فلا يصغي إليه. وبعد أن ضربه حبسه فمرض فمات!!
وكان “عمر” عفيفًا مترفعًا عن أموال المسلمين، حتى إنه جعل نفقته ونفقة عياله كل يوم درهمين، في الوقت الذي كان يأتيه الخراج لا يدري له عدا فيفرقه على المسلمين، ولا يبقي لنفسه منه شيئا.
الانجازات والفتوحات في عهد الفاروق عمر:
وقد اتسم عهد الفاروق “عمر” بالعديد من الإنجازات الإدارية والحضارية والاقتصادية، لعل من أهمها أنه أول من اتخذ الهجرة مبدأ للتاريخ الإسلامي، كما أنه أول من دون الدواوين، وهو أول من اتخذ بيت المال، وأول من اهتم بإنشاء المدن الجديدة، وهو ما كان يطلق عليه “تمصير الأمصار”، وكانت أول توسعة لمسجد الرسول في عهده، فأدخل فيه دار “العباس بن عبد المطلب”، وفرشه بالحجارة الصغيرة، كما أنه أول من قنن الجزية على أهل الذمة، فأعفى منها الشيوخ والنساء والأطفال، وجعلها ثمانية وأربعين درهمًا على الأغنياء، وأربعة وعشرين على متوسطي الحال، واثني عشر درهمًا على الفقراء.
وفتح في عهده بلاد الشام و العراق و فارس و مصر و برقة و طرابلس الغرب وأذربيجان و نهاوند و جرجان. و بنيت في عهده البصرة والكوفة. وكان عمر أوّل من أخرج اليهود من الجزيرة العربية إلى الشام.
وعاش عمر يتمنى الشهادة في سبيل الله، واستجاب الله دعوته، وحقق له ما كان يتمناه، فعندما خرج إلى صلاة الفجر يوم الأربعاء (26) من ذي الحجة سنة (23هـ) تربص به أبو لؤلؤة المجوسي لعنه الله ، وهو في الصلاة وانتظر حتى سجد، ثم طعنه بخنجر كان معه، ثم طعن اثني عشر رجلا مات منهم ستة رجال، ثم طعن المجوسي لعنه الله نفسه فمات. وأوصى الفاروق أن يكمل الصلاة عبد الرحمن بن عوف وبعد الصلاة حمل المسلمون عمرًا إلى داره، وقبل أن يموت اختار ستة من الصحابة؛ ليكون أحدهم خليفة على أن لا يمر ثلاثة أيام إلا وقد اختاروا من بينهم خليفة للمسلمين، ثم مات الفاروق، ودفن إلى جانب الصديق أبي بكر، وفي رحاب قبر الرسول عليه الصلاة والسلام.